في إحدى ليالي الشتاء القارسة، كانت محطة القطار في المدينة تعجّ بالمسافرين. بردٌ قارس يلسع الوجوه، ورياحٌ تصفر بين أركان المحطة كأنها تنذر بشيء قادم. بين الزحام والبرد، جلس رجل في زاوية بعيدة، متكوّرًا على نفسه، يلف جسده بمعطف مهترئ، وعيناه تبحثان في الوجوه عن بصيص أمل.
لم يكن أحد يلحظ وجوده. الناس مستعجلون إلى قطاراتهم، وكلٌّ يحمل همومه الخاصة. لكنه كان غريبًا بحق؛ وجهه متعب، ملامحه تحمل قصة طويلة من الألم، وصوته حين تنهد، كأنما خرج من أعماق الوجع. بدا وكأنه ينتظر شيئًا... أو أحدًا، لكنه في الحقيقة كان ينتظر الرحمة.
اللقاء الذي غيّر مجرى حياة
بينما كانت عقارب الساعة تقترب من منتصف الليل، دخلت سيدة في منتصف الأربعين من عمرها، تحمل في يدها كوب قهوة ساخن ووشاحًا صوفيًا. كانت تنتظر القطار المتجه إلى مدينة مجاورة. لمحته من بعيد، ذلك الغريب الجالس على الأرض بلا حراك. في البداية ترددت، ثم اقتربت بخطوات هادئة وسألت بلطف:
"هل أنت بخير؟"
رفع رأسه بصعوبة، نظر إليها بعينين حمراوين وقال بصوت مرتجف: "أنا بخير... فقط أنتظر القطار." لكن ملامحه كانت تقول غير ذلك.
لاحظت السيدة أن يديه ترتجفان من البرد، وأن أنفاسه تتسارع. وضعت كوب القهوة بجانبه وقالت بابتسامة: "اشرب هذا، سيُدفئ قلبك قبل جسدك." لم يصدق أن أحدًا ما انتبه إليه، ثم قال بخجل: "لا أستحق هذا، سيدتي، هناك من هو أحق." فأجابت: "كلنا نستحق الرحمة، حتى عندما نظن أننا لا نستحقها."
الرحمة التي أعادت الحياة
مرت دقائق قليلة قبل أن يسقط الرجل مغشيًا عليه. ارتبكت السيدة، فصرخت طالبة المساعدة. أسرع بعض المسافرين نحوها، وتم استدعاء موظفي المحطة والإسعاف. تبين أن الرجل كان يعاني من انخفاض حاد في حرارة جسده، وأنه كان على وشك أن يفقد حياته لولا أن السيدة لاحظته في تلك اللحظة.
نُقل إلى المستشفى، وبقيت السيدة بجانبه حتى استعاد وعيه. حين فتح عينيه، نظر إليها وقال بصوت مبحوح: "لو لم تقتربي تلك الليلة، لما كنت هنا الآن." ابتسمت وقالت: "ربما لم أُنقذك أنا، بل أنقذك الله حين وضع الرحمة في قلبي."
الرحمة لا تحتاج إلى موارد كثيرة، بل إلى قلب يشعر بالآخرين دون أن يُسأل.
قصة وراء الغريب
بعد أيام، جلس الرجل يروي قصته للسيدة. كان اسمه "سامي"، وقد خسر عمله منذ شهور، ثم فقد مسكنه بعد سلسلة من الظروف القاسية. لم يجد مأوى سوى محطة القطار، يقضي فيها الليالي منتظرًا فرصة جديدة. قال بأسى: "كنت أظن أن العالم أصبح بلا قلوب، حتى التقيت بك." فقالت السيدة: "القلوب الرحيمة لا تختفي يا سامي، لكنها أحيانًا تختبئ حتى تجد من يستحقها."
قررت السيدة مساعدته في البحث عن عمل، وبالفعل استطاعت أن توفر له وظيفة بسيطة في شركة للنقل. بدأت حياة سامي تتغير شيئًا فشيئًا، وبدأ يبتسم من جديد. لكنه لم ينسَ تلك الليلة، ولا ذلك الموقف الذي أعاد إليه الإيمان بالإنسانية.
الإنسانية لا تموت
مرت شهور، وفي صباح أحد الأيام كانت السيدة على وشك ركوب القطار كعادتها، فإذا بشخص يركض نحوها حاملاً باقة ورد. كان "سامي" نفسه، بوجه مشرق وروح ممتنة. قال لها وهو يبتسم: "اليوم أنا في طريقي إلى عملي الجديد، وقد أردت أن أشكرك مرة أخرى، لأنك كنت الضوء في ليلتي المظلم." ردت عليه بابتسامة رقيقة: "أجمل الشكر هو أن تنقل تلك الرحمة لغيرك يوماً ما."
ومنذ ذلك اليوم، صار سامي يذهب كل أسبوع إلى محطة القطار، يحمل بعض الطعام والبطانيات للمشردين. كان يقول دائمًا: "في كل مرة أساعد فيها إنسانًا، أشعر أنني أُعيد ما أُعطي لي ذات يوم."
العبرة من القصة
تُعلّمنا هذه القصة أن الرحمة ليست شعورًا مؤقتًا، بل هي فعل يغيّر حياة إنسان. في عالم يزداد قسوة يومًا بعد يوم، ما زال هناك من يُنقذ الأرواح بابتسامة، أو بكلمة، أو بفنجان قهوة بسيط. الإنسان لا يُعرف بقوته أو ماله، بل بقدر ما يشعر بغيره، وبقدر ما يمدّ يده حين يرى الألم.
كلّ لحظة kindness، مهما بدت صغيرة، قد تكون الفاصل بين الحياة والموت لشخص آخر. لذلك، لا تتردد في فعل الخير، فربّ موقف بسيط قد يخلّد اسمك في قلب إنسان إلى الأبد.
الدروس المستفادة من القصة:
- الرحمة قد تكون سببًا في إنقاذ حياة إنسان دون أن ندري.
- لا أحد يعلم ما يمرّ به الآخرون، لذا لنتعامل بلطف دائمًا.
- الأعمال الصغيرة قد تُحدث تغييرات عظيمة.
- الخير لا يحتاج إلى ثراء، بل إلى قلب يشعر.
- من يُعطِ الرحمة، يجدها حين يحتاجها.
الرحمة لا تُشترى ولا تُعلّم، إنها تنبع من قلبٍ عرف الألم فأراد أن يخفّفه عن الآخرين. قصة "حين أنقذت الرحمة حياة غريب في محطة القطار" تذكّرنا بأن الإنسانية لم تمت بعد، وأن كل واحد منا قادر أن يكون سببًا في حياةٍ جديدة لشخص آخر. فلنكن نحن البداية، ولنجعل الرحمة لغتنا اليومية، فبها تزدهر الأرواح، وتُكتب أجمل الحكايات.
