في إحدى المدن الصغيرة، حيث البيوت متلاصقة والقلوب متقاربة، عاش رجل بسيط يُدعى الأستاذ سليم، معلّم لغة عربية في مدرسة حكومية متواضعة. لم يكن يملك ثروة، ولا شهرة، ولا سلطة، لكنه كان يملك شيئًا نادرًا في هذا الزمان: الإخلاص في العطاء دون انتظار مقابل.
بداية الحكاية
بدأت رحلة الأستاذ سليم منذ أكثر من ثلاثين عامًا، حين دخل المدرسة لأول مرة شابًا مفعمًا بالحماس. كان يرى في التعليم رسالة مقدسة، لا مهنةً عادية. كان يعلّم طلابه القراءة والكتابة، لكنه قبل ذلك كان يعلّمهم القيم، الأخلاق، والرحمة. لم يكن مجرد معلم يشرح الدروس، بل كان أبًا ثانيًا لكل طالب يجلس أمامه.
كان يدخل الفصل بابتسامة دافئة، يحيّي طلابه بأسمائهم، ويشعر كل واحد منهم بأنه مميز. لم يكن يفرّق بين غني وفقير، ولا بين ذكي وضعيف. كان يقول دائمًا:
"كل طفل يحمل في داخله بذرة نجاح، فقط يحتاج من يرويها بالثقة والحب."
ومع مرور السنوات، أصبح الأستاذ سليم رمزًا في مدينته، يعرفه الجميع بابتسامته الهادئة وصبره الجميل. لكن رغم كل ذلك، لم يتغير حاله المادي، ولا سعى وراء منصب أو شهرة. كانت مكافأته الحقيقية حين يرى أحد طلابه ناجحًا في حياته.
سنوات من العطاء الصامت
مرت السنوات سريعًا، وتعاقبت الأجيال. كثير من طلاب الأستاذ سليم أصبحوا أطباء، مهندسين، ضباطًا، أو حتى معلمين مثله. كانوا يعودون لزيارته أحيانًا، يقدمون له الهدايا البسيطة، أو يروون له كيف غيّر مسار حياتهم. لكنه كان يكتفي بابتسامة عميقة ويقول:
"أنا لم أفعل شيئًا سوى أنني أحببتكم بصدق."
في تلك المدرسة القديمة، كان كل شيء يشهد على بصماته: جدران الصفوف التي علّق عليها لوحات الخط العربي، حديقة المدرسة التي زرع فيها أشجار الزيتون بيديه، وحتى المقاعد التي أصلحها بنفسه عندما لم يكن هناك ميزانية.
كان يأتي قبل الجميع، ويغادر بعد الجميع. يحمل في حقيبته دفاتر الطلاب المليئة بالأحلام والأخطاء الصغيرة. لم يكن يُعاقب بشدة، بل كان يُعلّم بلطف. كان يؤمن أن الكلمة الطيبة تصلح أكثر مما يفسده العقاب.
اليوم الذي تجاهله الجميع
بعد عقود من العطاء، قررت المدرسة تنظيم حفل لتكريم المعلمين المتقاعدين. توافد الجميع... إلا أن الأستاذ سليم لم يتلقَ دعوة! ظنّ في البداية أن هناك خطأ إداري، ثم أدرك أن أحدًا لم يتذكّره.
جلس في منزله المتواضع تلك الليلة، يراقب من شرفته الأنوار المنبعثة من قاعة الحفل القريبة. سمع أصوات التصفيق، ورأى المعلّمين يكرَّمون، وأسماءهم تُذكر في الإذاعة المحلية. شعر بغصة في قلبه، لكنه لم يغضب. فقط قال لنفسه:
"ربّ عملٍ صغير في عين الناس، عظيم في عين الله."
في تلك اللحظة، طرق بابه أحد تلاميذه القدامى، يحمل باقة ورد وابتسامة صادقة. قال له:
"أستاذي، كنت السبب في أن أُصبح اليوم طبيبًا. جئت لأقول لك شكراً، لأنك من زرعت أول بذرة في طريقي."
دمعت عينا الأستاذ سليم، وعرف أن تكريمه الحقيقي لم يكن في حفلٍ رسمي، بل في قلوب من أحبهم بصدق.
رسالة القصة
قصة الأستاذ سليم ليست مجرد حكاية عن معلمٍ نُسي في زحام الحياة، بل هي مرآة تعكس قيمة الإنسان الذي يعطي دون أن ينتظر المقابل. كم من أبطالٍ يعيشون بيننا دون ضجيج! لا تُذكر أسماؤهم في الأخبار، لكن أثرهم يعيش في وجدان الناس.
إن التعليم ليس مجرد وظيفة، بل هو بناء حضارة. والمعلم الصادق هو من يُنير الطريق للآخرين ولو بقي هو في الظل. لقد علّمتنا هذه القصة أن التكريم الحقيقي لا يُمنح بالدرع والشهادة، بل يُكتَب في ذاكرة من غيّروا بسببه مسار حياتهم.
فلنقف لحظة تأمل... كم معلم مرّ في حياتك ولم تقل له "شكرًا"؟ ربما حان الوقت لأن نُرسل له رسالة امتنان، فرب كلمة واحدة قد تُعيد النور لقلبٍ أعطى طويلاً بصمت.
العبرة
الحياة لا تُنصف دائمًا أصحاب القلوب الطيبة في الظاهر، لكنها لا تنسى فضلهم في الباطن. قد يُكرَّم البعض بالأوسمة، لكن أمثال الأستاذ سليم يُكرَّمون في السماء، حيث تُكتب أعمالهم بمداد النور.
كل من يزرع الخير سيجني ثماره، ولو بعد حين. فالتكريم الحقيقي ليس في الكلمات، بل في الأثر الذي يتركه الإنسان في نفوس الآخرين.
